أخبار إيجاز

من الفوضى إلى التنظيم.. كيف نجح الثوار في إسقاط نظام الأسد؟

من الفوضى إلى التنظيم.. كيف نجح الثوار في إسقاط نظام الأسد؟

سوريا -

المعارضة السورية تعلن رسميًا تحرير دمشق وسقوط بشار الأسد بعد 11 يومًا على بدء معركة “ردع العدوان”.ذلك الحدث الذي انتظره الملايين، كان ثمرة أعوام من العمل وجزء من تفاعلات المشهد خلال 13 عامًا، ولم يكن ليحدث بهذا المستوى لولا سنوات من المنافسة الفصائلية وتدافع الجهادية. في حين تذهب معظم التحليلات إلى أن التحرير كان بسبب ضعف نظام الأسد وحلفائه واستغلال المعارضة السورية للظرف الدولي والإقليمي.

لكن انتصار عظيم بهذه السرعة والمستوى التنظيمي والتكتيكي والانضباط السلوكي، لا يمكن أن ينجح بسبب هذه العوامل فقط. كذلك بالمنطق العسكري، فإن قرار شنّ عملية عسكرية كبيرة مثل “ردع العدوان” لا يؤخذ بهذه السرعة.

إن التطورات التي حدثت للمعارضة نفسها تحديدًا خلال 5 أعوام قبل التحرير، كان لها تأثير كبير إن لم يكن حاسمًا، ولذا يروي هذا التقرير القصة من الداخل، ويقرأ مشهد التحرير ضمن حلقات سبقته، كما يحلّل العوامل والإصلاحات الفكرية والدينية والاجتماعية، والاستعدادات النفسية التي مهّدت الطريق لهذا الإنجاز.

كذلك يثير هذا التقرير مجموعة من الأسئلة. أولًا، ما هي العوامل التي ساهمت في نجاح المعارضة السورية المسلحة في الميدان بهذه السرعة؟ هل كانت هناك أسباب محددة أعطتهم ميزة أم أنهم تلقوا دعمًا من الجهات الأجنبية؟ وثانيًا، هل نعزو هذه التطورات وتحقيق هذا النصر إلى الصفات الشخصية لزعماء المعارضة أنفسهم، أم أن هناك عوامل أخرى لعبت دورًا في هذا النصر؟

مأسسة الثورة: حكومة تكنوقراطية

في أوائل عام 2020 استقرت معظم الجبهات ووصلت إلى خطوط التماسّ التي انطلقت منها “ردع العدوان” عام 2024. ومنذ وقف إطلاق النار ظلَّ الوضع هادئا نسبيًا رغم وقوع بعض الاشتباكات على الخطوط الأمامية.

بذلت المعارضة جهودًا متضافرة لتشكيل إدارة مدنية ناجحة وإصلاح بيروقراطي نحو التكامل والكفاءة في المناطق التي تسيطر عليها، ففي مايو/ أيار 2021 أثناء لقائه بوفد من شيوخ القبائل، صرّح الجولاني بأن المرحلة الحالية هي عهد بناء المؤسسات التي ستمهّد الطريق لتحقيق النصر في نهاية المطاف.

لقد رأى الجولاني أن الثورة ليست مجرد معركة عسكرية فحسب، كما اعتقد أن المساحة الممنوحة بعد وقف إطلاق النار ستساعد في تأهيل الكوادر وبناء قدرات وخبرات أكبر، وهو ما سيؤدي إلى “تحرير كامل سوريا” على حد تعبيره في يوليو/ تموز 2022. وصرّح الجولاني في 15 مايو/ أيار 2021: “كل مؤسسة نبنيها في المحرر هي خطوة باتجاه دمشق.. معركتنا على كل المستويات”.

في الواقع، حاولت المعارضة بناء مشروع شبه دولة في المناطق المحررة يشمل كل السكان، ولهذا السبب إن إنشاء حكومة مدنية تكنوقراطية تسمّى حكومة الإنقاذ لحكم إدلب، يشكل مرحلة مهمة جدًّا في تاريخ الثورة السورية بحسب الجولاني، في خطابه أمام وزراء حكومة الإنقاذ السورية.

قبل إنشاء حكومة الإنقاذ السورية، كانت الخدمات تدار من قبل المجالس المحلية التي تم إنشاؤها بعد الثورة عام 2011، لكنها لم تعمل بالكفاءة التي أرادها الجولاني، ولذا تم تأسيس حكومة الإنقاذ بنهاية 2017 للانتقال من نموذج المجالس المستقلة إلى جهاز حكومي جديد مركزي.

إن حكومة الإنقاذ مسؤولة عن الشؤون المدنية، ولديها مجموعة من الوزارات كوزارة الداخلية ووزارة العدل والشؤون الدينية وجريدة رسمية للمراسيم والقوانين وما إلى ذلك، وأعضاء هذه الحكومة هم من بين المثقفين والأكاديميين السوريين.

وبالفعل نفّذت هذه الحكومة تغييرًا إداريًا تدريجيًا في جميع أنحاء إدلب، وقامت بتقاسم أفضل للموارد عما كان عليه في السابق، فتمَّ إنشاء محاكم ومؤسسات حكم محلية قادرة على توفير الخدمات الاجتماعية وإنفاذ القانون والنظام. في الحقيقة، كان لدى حكومة الإنقاذ المزيد من الحرية في المجالات التي لم تتمكن المعارضة المسلحة أو لم ترغب في السيطرة عليها.

أيضًا تم العمل على بناء المؤسسات التعليمية والشرطية والقضائية، في الواقع هناك دور هام لمدارس التجديد والإصلاح والجهود التي بُذلت في سبيل الإصلاح الديني، وبخاصة مواجهة الاضطراب الفكري والأفكار المتطرفة.

وجدير بالذكر أن المجال الديني والثقافي شهد تحسُّنًا منذ سيطرة حكومة الإنقاذ، وربما ذلك بسبب معطيات الفضاء الديني الذي تشكل خارج سيطرة النظام في شمال غرب سوريا، بجانب وجود سوريين مهجرين من كافة المناطق. لكن الشاهد أنه خلال هذا الفضاء الحر نسبيًا كانت تتم عملية تعبئة أيديولوجية وتجنيد اختياري، ومثلها كمثل الفصائل الأخرى، جندت هيئة تحرير الشام شبابًا وكوادر من أبناء المخيمات الذين هُجّروا من مدنهم، وهو ما يوضح الأعداد الكبيرة للمقاتلين اليوم.

هذا بجانب إعادة تأهيل الطرق في المنطقة بالكامل، والقيام بنشاط في مشاريع الأشغال العامة، وإعادة بناء المناطق التي تعرضت لضربات جوية حديثة، وتشيد طرق ومبان سكنية وتجارية ومراكز تسوق ومناطق صناعية جديدة من خلال شركة الراقي للإنشاءات.

لذا لم يكن من المستغرب أن نرى الجولاني يظهر في معظم مشاريع المرافق العامة الجديدة، مثل حفل افتتاح طريق موسع يربط باب الهوى بحلب في يناير/ كانون الثاني 2022، وكذلك ظهوره في مشاريع الري، وأوضح أن هذه المشاريع تخدم الثورة، وعلى حد تعبيره: “كل لبنة تبنى في المحرر تتقدم بنا مئات الكيلومترات نحو هدفنا الأساسي تحرير دمشق وكل سوريا”.

كذلك تتجسد استراتيجية الجولاني الرامية لتعبئة الموارد وجميع ميادين النشاط والطاقات لخدمة تحرير البلاد من خلال لقاءاته في جامعة إدلب، وأيضًا في آخر ظهور علني له في 5 سبتمبر/ أيلول 2024 بمعرض كتاب إدلب قبل بدء معركة “ردع العدوان”.

وقال بتأثر بالغ: “كبت دمشق من جديد، ويا ويل أمة تكبو فيها دمشق.. ومن إدلب العز يشع فجر أمة جديد، يتعلم ويعمل بما تعلم ويعد ويستعد، ليقول بصوت عال، قف دمشق، قف يا ذرة الأوطان ويا حضارتها ويا منبع عزها، قف واشمخي وارقبي نصرًا عزيزًا مؤزرًا بإذن الله”.

رفعت هذه الحكومة عبء كبير عن كاهل الإدارة العسكرية التي احتفظت بالهيمنة على أجزاء من الاقتصاد والسيطرة على الأمن وإدارة نقاط التفتيش، ومعاقبة المعارضين بالاعتقالات عند الضرورة، بجانب شؤون الاستخبارات أو ما يعرف بجهاز الأمن العام وهو تابع مباشرة لأبو محمد الجولاني، وبالتالي وجود إدارة مدنية تقوم على شؤون الخبز والمساعدات الإنسانية وما إلى ذلك، جعل المعارضة تهتم أكثر بالجانب العسكري والأمني.

حسب الباحث بالشأن العسكري عمار فرهود، فإن العسكري قبل حكومة الإنقاذ كان هو نفسه الأمني، وهو نفسه المحافظ، وهو نفسه القاضي والشرعي، وهو نفسه المسؤول الخدمي، فكان يدير كل شيء، وبالتالي لم يتفرغ هذا العسكري لمهمته الأساسية بشكل كامل لأنه منشغل أيضًا بالشؤون المدنية، أما بعد أن أنشأت هيئة تحرير الشام حكومة الإنقاذ في عام 2018 كذراع حوكمية مدنية، تم تقسيم الاختصاصات.

وفي حين كانت هيئة تحرير الشام وغيرها من فصائل المعارضة تعتمد في السابق على اقتصاد الأنفاق وغنائم الحرب والاستيلاء على الموارد، باتت تعتمد على موارد مالية جديدة ودخل مالي مستقر ليس فقط من خلال شبكات رجال الأعمال، بل من خلال السيطرة على أجزاء من الاقتصاد المحلي، كالمعابر الرئيسية وفرض ضرائب وجمع الزكاة والتبرعات من السكان المحليين في مناطق إدلب، وهو لا يزال إلى حد اللحظة.

وبالتالي أصبح هناك مراكمة لمجموعة متنوعة من الموارد والأموال والتي لم تمكن المعارضة من الاستقرار فحسب، بل تم استخدام هذه الخزائن لعمل عسكري كبير كعملية “ردع العدوان”.

وهذا لا يعني عدم وجود حالات من المعارضة لهذه الإدارة المدنية، لكن رغم العديد من إخفاقات هذه التجربة، فإنها لم تضعف المجتمع من الداخل، فعلى سبيل المثال استمرار المظاهرات لحوالي 8 أشهر في إدلب ضد هيئة تحرير الشام، يوحي بأن العديد من وسائل التعبير لم يتم قمعها، وأن هناك مساحة من التنفس لهذا المجتمع.

ربما نموذج حكومة الإنقاذ ليس مثاليًا، لكن حياة السكان المحليين كانت أفضل من السابق، خاصة من ناحية الأمن، وكذلك مقارنة بمناطق الجيش الوطني بالشمال، وأعرب العديد من السكان المحليين عن رضاهم في استتباب الأمن والاستقرار النسبي ووجود سلطة مدنية واحدة.

ومع الوقت وبناءً على الدروس المستفادة، أصبحت هذه الحكومة أكثر قدرة وخبرة على مواجهة الأزمات التي واجهتها، مع ملاحظة أن هذه الإدارة وأفرادها ذوي المهارات والخبرات المتنوعة هم من يتولون عمليًا الشؤون الإدارية اليوم في المناطق المحررة حديثًا.

وبالتالي لا ينبغي إطلاقًا إهمال دور المجتمع المدني الذي أضاف مجموعة متنوعة من المهارات إلى المعارضة المسلحة ويقوم الآن بدور كبير، فعندما أعلنت إدارة العمليات العسكرية عن عملية “ردع العدوان”، لم تقاتل القوات العسكرية بشكل محترف فحسب، بل في أعقاب الإعلان مباشرة، قامت حكومة الإنقاذ بتنشيط لجنة “الاستجابة الطارئة” للمساعدة في أي تداعيات للحملة العسكرية. هذه اللجنة التي تم إنشاؤها في مارس/ آذار 2020، هي عبارة عن جهاز طوارئ بين الوزارات المختلفة.

ثم في الساعات التي تلت “ردع العدوان”، بدأت وزارة التنمية والشؤون الإنسانية على الفور في تجهيز خيام جديدة للنازحين داخليًا من حملة القصف التي شنّها النظام، ووفرت أرقام هواتف في القرى والمدن للاتصال بها بسهولة، كما بذلت لجنة الطوارئ جهودًا جبارة لتعبئة جميع الموارد الطبية، وتسريع عمل المخابز لتلبية احتياجات السكان المحليين.

من اللافت حقًّا أن بعد تحرير حلب، استطاعت لجنة “الاستجابة الطارئة” التخفيف بسرعة من أزمة الخبز من خلال إرسال 100 ألف رغيف من مخابز إدلب إلى حلب، كذلك قامت لجنة “الاستجابة الطارئة” من خلال مؤسسة إي كلين بتنظيف الأنقاض من الغارات الجوية للنظام وروسيا، وأيضًا تم تنظيف شوارع المناطق المحررة حديثًا، وهو الأمر الذي أثار انتباه المسيحيين ولاقى قبولًا منهم.

وفي 1 ديسمبر/ كانون الأول، وعد مدير العلاقات العامة في حكومة الإنقاذ السورية عبد الرحمن محمد، السكان المحليين في حلب بالبدء بترميم وإعادة القطاعات الخدمية للعمل من الاتصالات والكهرباء وإيصال المياه وأعمال النظافة ودعم الأفران وإعادة حركة المواصلات وإزالة المخلفات المتفجرة، وهذا بالتأكيد استنادًا إلى خبرتهم في المناطق المحررة الأولى.

وبالتالي من الممكن القول إن معركة “ردع العدوان” حصدت نتائج نحو 5 سنوات من الجهد، ومن المهم ملاحظة أنه في اليوم التالي لتحرير حلب وحماة وحمص ودمشق، بدأت الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة الإنقاذ بنشر شرطة المرور وعناصر من وزارة الداخلية في مواقع مختلفة من هذه المدن، لحماية المؤسسات وتجنّب الفراغ والفوضى.

حتى إن أبو محمد الجولاني في آخر ظهور علني له مع الحكومة الجديدة، حاول إقناع أو طمأنة الجلالي بأن لديهم خبرة من إدارة حكومة الإنقاذ في إدلب، ونجحوا في العديد من الملفات.

في الواقع، تحققت بالفعل رؤية الجولاني حين اعتقد أن هذه المشاريع خطوة نحو دمشق، فقبل سنوات أمر مجلس حكومة الإنقاذ بالعمل على أن تكون المؤسسات في إدلب جاهزة للتوسع بمجرد تحرير أراضي جديدة، وقال في يوليو/ تموز 2022: “عندما نحرر مناطق كبيرة وأنا أرى ذلك قريبًا.. ينبغي أن تكون هذه المؤسسات جاهزة لتسد الفراغ بشكل سريع، ويجب أن يشعر الناس في غضون أسابيع قليلة بالفارق الكبير على المستوى الأمني والتعليمي والصحي والزراعي والاقتصادي وفي كل مناحي الحياة”.

التحول من فصيل إلى شبه دولة

إن نجاح أي معارضة مسلحة لا يتحدد فقط بمجرد حمل السلاح، لقد أجبرت ضرورات الحرب والمشهد السياسي المتغير غالبية فصائل المعارضة على الاستفادة من شبكات الدعم المحلية، وضرورة التعاون مع المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية، والأهم التكيف أو الموازنة بين الأيديولوجية والظروف المتغيرة.

وساهمت هذه المعطيات مجتمعة في التطور الأيديولوجي للعديد من الفصائل، وعلى حد تعبير عبيدة غضبان: “فخلال الأربع سنوات الماضية لم تكن هناك حالة ركود أو حالة سلم في إدلب، إنما حالة تفاعل وتدافع داخلي”.

في الواقع، أدركت هيئة تحرير الشام المأزق الذي واجهته خيارات العديد من الجماعات الجهادية كتنظيمي القاعدة و”داعش”، وفشل هذه التنظيمات في تحقيق هدف استراتيجي معيّن، لذا إضافة إلى النشاط على الأرض، أنشأت هيئة تحرير الشام قسمًا للشؤون السياسية، ومكتبًا خاصًّا لإدارة العلاقات الخارجية، بما في ذلك المنظمات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة. وحاولت فتح قنوات للتنسيق مع الأطراف الإقليمية والدولية، وبالتالي لم تعد منفصلة تمامًا عن معطيات الواقع.

ومنذ أبريل/ نيسان 2022، اشتبكت إدارة الشؤون السياسية مع العالم وأحداثه المختلفة، واستخدمت نفس اللغة التي تستخدمها اليوم، وترجمت بياناتها للغات أخرى بحسب التطورات والأحداث والجهات التي تخاطبها، ولكن الفكرة هنا أن الخطاب السياسي اليوم ليس وليد معركة “ردع العدوان”، إنما هو نتيجة وتراكم لسنوات سابقة.

أيضًا حاولت العديد من فصائل المعارضة استيعاب المطالب المحلية وبناء علاقة أوثق مع السكان المحليين، والتعاون مع الأعيان والزعامات المحلية، وقدمت بعض التنازلات التي قد تتعارض مع معتقداتها الأساسية، كما خاطبت المجتمع السوري بشرائح مختلفة، فظهر الجولاني وتحدث مع وجهاء العشائر، وهناك مجلس خاص بالعشائر تابع لإدارة شؤون السياسية.

وفي لقاء للجولاني مع مسؤولين محليين في حكومة الإنقاذ نشرته مؤسسة أمجاد في 27 أبريل/ نيسان 2023، تطرق إلى ضرورة عدم التصادم مع أعراف الناس وتقاليدهم، مؤكدًا على ضرورة عدم الاصطدام بالواقع أو تكرار تجارب أثبتت فشلها.

حتى الأقليات والنازحين أُنشئ لهم مجالس مختلفة، ما رأيناه مثلًا تجاه المسيحيين في حلب وغيرها ليس جديدًا، فقبل عامين زار الجولاني منطقة جبل السماق التي يسكنها أغلبية درزية، وحاول تهدئة مخاوف الدروز، وأعاد لهم المنازل التي تم الاستيلاء عليها سابقًا. كما قدم مبادرات مماثلة تجاه المسيحيين الذين تم الاستيلاء على منازلهم في إدلب أيضًا.

إضافة إلى ذلك، أدركت العديد من الفصائل أن الخطاب الذي لا يتسم بالمرونة سيؤدي إلى تكتل القوى الدولية والإقليمية ضدها، وهو ما سيكون له تكلفة وتبعات، لهذا حاولت هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ تبديد المخاوف الدولية وإضفاء الشرعية محليًا وخارجيًا على مشروعهما الجديد على الأرض، وتبني الدبلوماسية ولغة السياسة الواقعية والمصالح، وركزت على أن مشروعها محلي يقوم به أبناء سوريا من التيار المحافظ.

وفي الواقع كان هناك خطاب إعلامي متزن جدًّا على المستوى الداخلي والخارجي، ففي العديد من البيانات أكدت هيئة تحرير الشام على أنها لا تهدد الدول الأخرى بل تسعى إلى التعاون، وكي لا تقوم على معاداة الآخرين أو استثارتهم ضدها، أكدت على أن أعداءها الرئيسيين هم النظام والميليشيات الإيرانية وروسيا، وقد أثارت هذه التغييرات حفيظة شخصيات سلفية جهادية، كأبي محمد المقدسي الذي ندّد بتحرير الشام بسبب ما اعتبره اختلافًا في الأيديولوجيا.

مع العلم أن الهيئة وحكومة الإنقاذ لم تكنا حقيقة متماهيتَين تمامًا مع المناخ الغربي أو التركي كما يشاع، فعل سبيل المثال أعرب أبو محمد الجولاني بشكل علني عن قلقه من التقارب التركي مع النظام، وهو أول قائد من الفصائل يسارع في انتقاد السياسة التركية في التقارب مع بشار الأسد، ويعد “بمواصلة القتال حتى تحرير دمشق”. كذلك هنّأت الهيئة حركة طالبان في نجاح معركتها الأخيرة ضد أمريكا، كما نعى العديد من قيادتها أيمن الظواهري.

ومن زاوية أخرى، عملت الهيئة وحكومة الإنقاذ على استراتيجية إعلامية متماسكة، فتمَّ التخلي عن القنوات التقليدية، والتوجه باتجاه آخر نحو القنوات غير الرسمية في السوشيال ميديا والبحث عن الأشخاص المؤثرين والتواصل معهم، وبالتالي صار هناك مجموعات من المراكز الإعلامية غير تابعة للهيئة بشكل مباشر.

وفي الحقيقة، كان واضحًا تحسن الحالة الإعلامية بشكل كبير في معركة “ردع العدوان”، وخاصة تسريب شائعات معيّنة لتوجيه الأنظار باتجاهات أخرى، ثم التحرك بمحاور مختلفة، هذا أيضًا تنظيم معلوماتي وإعلامي كبير يدل على التطور المستمر للمعارضة السورية.

تقليم الفصائل: مركزية قرار الحرب والسلم

لم يكن بناء المؤسسات والإصلاحات التي تم تنفيذها كفيلًا بتحقيق النصر في المستقبل، لقد شكلت أعوام 2017 و2018 نقطة تحول حاسمة في مسار الصراع، وكشفت الاشتباكات الفصائلية التي وقعت بين عامي 2017 و2018 عن الطبيعة المحلية للمعارضة المسلحة.

وبحلول يوليو/ تموز 2018 تركزت الفصائل المسلحة المتبقية إما في محافظة إدلب الواقعة في الشمال الغربي وإما في المناطق التي تسيطر عليها تركيا في الشمال. وكانت آخر هزيمة عام 2020 في سراقب، والتي سقطت بيد النظام بسبب غياب التنسيق بين الفصائل.

لقد أدّت التطورات السياسية والعسكرية الجديدة لاستئناف المناقشات السابقة حول فكرة وحدة الفصائل تحت مظلة واحدة، بدلًا من وجود مجموعات ضعيفة التنظيم لن تستطيع الدفاع وكسب المعركة بهذا الشكل الفوضوي. كانت الحاجة إلى توحيد المعارضة المسلحة أمرًا بالغ الأهمية، ومع ذلك يبدو أنه كان من الصعب أن تتم محاولات التوحيد بشكل سلمي.

ما ميّز هيئة تحرير الشام عن كل الفصائل بخلاف المركزية وانضباطها الداخلي، هو أمران، الأول امتلاكها جهاز أمني قوي مكنها من جمع المعلومات، والثاني قدرتها على إرغام وتفكيك العديد من الفصائل العسكرية واحدة تلو الأخرى، واستغلالها بمهارة عوامل الضعف الداخلية لهذه الفصائل.

وفي نهاية المطاف، استطاعت إخلاء الفصائل الصغيرة من المناطق الاستراتيجية، وسادت على حركة الزنكي وصقور الشام وأنصار الإسلام وأنصار التوحيد وجنود الشام وجند الله وغيرها، كما منعت إنشاء فصائل جديدة وتعاملت بحزم مع المنشقين.

كذلك استطاعت هيئة تحرير الشام دمج الفصائل الأجنبية المستقلة تحت مظلة محلية واحدة، بجانب الضغط على الألوية والفصائل الصغرى التي يقودها أجانب، ووضعت لهم شروطًا للاستمرار في الوجود والعمل: إما الانضمام إلى القوات العسكرية التابعة للهيئة والتي تم تشكيلها حديثًا، وإما على الأقل البقاء تحت مظلة تنظيمية واحدة.

كما اتخذت هيئة تحرير الشام إجراءات حاسمة ضد شبكات “داعش” التي ذهبت إلى شمال غرب سوريا بعد عام 2019، وقامت أيضًا في يونيو/ تموز 2020 بتفكيك محاولة القاعدة لبناء فرع جديد في سوريا يسمّى حرّاس الدين.

وأدّى الانتصار العسكري لهيئة تحرير الشام على هذه الفصائل، إلى ترسيخها باعتبارها الجماعة المهيمنة، بجانب فرض حكومة الإنقاذ على جميع المناطق التي كانت تسيطر عليها سابقًا فصائل مختلفة، بما في ذلك حركة أحرار الشام. أصبحت إدلب بأكملها تحت السيطرة الإدارية لحكومة الإنقاذ، ما وضع حدًّا للقتال بين الفصائل.

رغم أن هذه الإجراءات التي اتخذتها الهيئة كان بعضها عدائيًا ضد الفصائل الأخرى التي استوعبتها أو سيطرت عليها بالقوة، إلا أنها عززت في المستقبل من وحدة القرار السياسي والعسكري وخفّفت من حالة التفتت، خصوصًا أن هذه الفصائل تبنّت هويات ومشاريع متضاربة ولم يكن لديها سوى القليل من القواسم المشتركة. وندد كثيرون بفلسفة الهيئة في التغلب على الفصائل الأخرى، واتُّهمت بارتكاب العديد من التجاوزات.

image

وفي المحصلة، أرغم الجولاني الفصائل على أن تلتزم بغرفة عمليات عسكرية واحدة حتى لا تتكرر حالة التشرذم التي كانت موجودة في آخر هزيمة عام 2020، أما بعض الفصائل التي رفضت الالتحاق بهذا المشروع العسكري، فتمّت إزاحتها بشكل كامل واعتقال قادتها، ومن بين هذه الجماعات جماعة جند الشام بقيادة مسلم الشيشاني، حين رفض الاخير الاندماج في هذا المشروع، فكّكت الهيئة تنظيمه بكل سهولة.

وبالتالي لم يعد هناك وضع اتخاذ قرارات بشكل منفرد كالسابق، أو أن تعمل الفصائل الأجنبية بشكل مستقل عن طوع القيادة المحلية، وحتى ولو لم تتحقق الوحدة التنظيمية للفصائل، فهناك تنسيق عسكري أكثر مؤسساتية فيما بينها، إذ أصبح هناك قوة مركزية موحدة تتحكم في قرار الحرب والسلم ومشاركة الموارد والغنائم، ولا يتم أي قرار استراتيجي بشأن العمليات العسكرية إلا بالرجوع للمركز، وهو ما شكّل مشهد “ردع العدوان” عام 2024.

وزارة دفاع: التحول من أسلوب الفصائلية إلى قوة أكثر احترافية

لقد ولّت المرحلة الأولية من الصراع التي أعاق فيها التشرذم قدرة الفصائل على التنسيق الفعّال، وبدلًا من تولي المقاتلين الأجانب أدوارًا بارزة، حلَّ محلهم الجهاديون السوريون، وانتقلت حالة الثورة من الفوضوية والعشوائية إلى حالة أكثر احترافًا، كدفاع عسكري مشترك وقوات مجهّزة لإدارة خطوط أمامية وقادرة على نشر الأسلحة الثقيلة والتنسيق فيما بينها.

وفي حين لا تمتلك حكومة الإنقاذ وزارة دفاع، فإن هيئة تحرير الشام بحثت عن أدوات ووسائل لتطوير العمل العسكري، لذا قامت في ديسمبر/ كانون الأول 2021 بإنشاء أكاديمية عسكرية للمناطق المحررة، ضمّت عسكريين سوريين منشقين عن النظام السوري وجهاديين محترفين من أوراسيا، وقد عملوا على تحسين مهارات مقاتلي المعارضة.

وفي سبتمبر/ أيلول 2022، وبمناسبة تخريج دفعة الضباط الأولى، أخبر الجولاني الضباط أنه نظرًا للحاجة إلى زيادة الدعم للمعركة ضد نظام الأسد، فقد قرروا إنشاء هذه الكلية العسكرية لإضافة خبرة للمجاهدين في العلوم العسكرية وفنون القتال والتقدم في التصنيع العسكري الذاتي، كما أشار إلى أن خريجي هذه الكلية سيكونون نواة جيش الثورة الذي سيحرر سوريا.

لقد كانت هذه الأكاديمية بجانب كلية الشرطة أحد أهم القرارات التي اتخذتها هيئة تحرير الشام للانتقال من التدريب الفصائلي إلى تدريب أكثر احترافية واتباع معايير الجيش المحترف، والأهم تعزيز قوات المعارضة في كيان منظم يشبه الجيش، مع قيادة موحدة ووحدات متخصصة. مع ملاحظة أن هذه الأكاديمية، درّبت مختلف الفصائل والتشكيلات العسكرية.

ولا شك أن هذه الأكاديمية ساعدت في تعزيز احترافية قوات المعارضة، وخاصة توحيد تكتيكاتهم وأساليب تدريبهم، وجلب المزيد من التماسك العسكري والالتزام بعقيدة قتالية واحدة، وتغيُّب عوامل الخلاف السابقة، وهو ما ظهر بشكل واضح في القيادة العامة لإدارة العمليات العسكرية التي حررت البلاد.

كذلك أعادت هيئة تحرير الشام تنظيم نفسها عسكريًا من خلال إنشاء كتائب جديدة متخصصة وأكثر احترافية، مثل قوات الرصد والاستطلاع، والكتائب الإقتحامية، وتطوير 3 أنواع مختلفة من القوات العسكرية: المغاوير، والقوات الخاصة، ودوريات الخطوط الأمامية.

كما تم حشد قوات محلية جديدة لتوفير دفاعات إضافية للخطوط الدفاعية الثانية والثالثة. وبالتالي صار هناك اختصاص أكثر، فعلى سبيل المثال، ليس من مهام من يقوم بالمواجهات والقتال على الجبهات أن يتحول إلى قوة أمنية.

وبحلول عام 2024، تحسنت احترافية المعارضة المسلحة وقدرتها التنظيمية بشكل كبير، فقد باتت الجهود أكثر تكاملًا على المستويات التكتيكية والعملياتية والاستراتيجية. وصرّح أبو محمد الجولاني في أبريل/ نيسان الماضي: “إن شاء الله سنحتفل بعيد الفطر في حلب ودمشق قريبًا”، وكما اتضح فإن تصريحاته لم تكن مجرد نزوة.

وفي حين كانت الغرف العسكرية المشتركة السابقة تحدث على أساس ارتجالي دون نظام واضح، أصبح هناك نظام ولوائح لم تكن موجودة من قبل، ومثلما يروي أبو محمد الجولاني، أصبح هناك توحُّد في الرأي الداخلي للفصائل مع بناء مؤسساتي داخل الفصائل نفسها.

يعني توحدت في الرأي وفي العمل العسكري، وبالتالي أصبح هناك حالة من المركزية ومستوى التخطيط والانضباط وتلقي الأوامر لم تكن موجودة من قبل، وهذه الحالة بحسب الجولاني هي التي حققت هذا الانتصار السريع في معركة التحرير. وأمام هذا النموذج الإبداعي للمعارضة المسلحة، لم يستطع النظام أن يطور شيئًا رغم فارق الإمكانيات بينهما.

نختم بالقول وعلى ضوء ما سبق، جاء تحرير دمشق بعد سنوات من التطور السياسي والتنظيمي للفصائل السورية وخبرتها المكتسبة من الانخراط في القتال لما يزيد عن 13 عامًا، بجانب بناء مشروع سياسي يجمع ما بين الجهاد والإصلاح، والأهم محاولة الخروج من واقع التفتت الذي كان سائدًا إلى واقع جديد.

لم تكن النجاحات التي حققتها المعارضة المسلحة بسبب براعتها العسكرية فحسب، بل أيضًا بسبب التغيير في الميادين السياسية والإدارية، وتفاعل الخطاب الإعلامي والسياسي مع البنية الإدارية والحوكمة والجانب العسكري خلال الأعوام الخمسة الماضية. فما نشهده اليوم هو نتيجة 5 سنوات من إعداد وتجهيز عسكري وتكامل الطاقات والمؤسسات مجتمعة، والتي جعلت معركة التحرير ممكنة.

المصدر: نون بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى