مقالات وآراء

كيف استفاد الإماميون من صراعات القوى الكبرى على البحر الأحمر؟ (1-3)

بَعيدًا عن اختلاف المُؤرخين – قديمهم ومعاصرهم – حول نَسب الطاهريين، وهل هم حميريون أم أمويون، ثمة صَفحات مُضيئة في تاريخ حُكام هذه الأسرة الاستثنائيين، الذين كانوا في الأصل امتدادًا لحقبة الدولة الرسولية، وانتموا – وهو الأهم – لهذه الأرض، ودَافعوا عنها، وتَصدوا لتوسعات أعدائها الإماميين، وصَاروا يمنيين، نشأةً وانتماءً، وتَوجهًا ومصيرًا.

تختلف المصادر التاريخية حول نسب الطاهريين، وهناك من المُؤرخين المُتقدمين من نَسبَهم إلى بني أمية القريشيين، كابن الديبع الذي يُعد مُؤرخ دولتهم، وبا مخرمة، وابن الأنف، والنهروالي، وعيسى بن لطف الله، وابن داعر، وهناك من المُؤرخين المُتأخرين – وهم كُثر – من نسبهم إلى قبيلة الذراحن الحميرية اليافعية التي سكنت جنوبي رداع، وفي منطقة جُبن تحديدًا، وبين هذا القول وذاك تبقى الحقيقة غائبة، وبضعة فحوصات جينية لعدد من أحفاد هذه الأسرة، كفيلة بوضع حد لهذا اللغط والاختلاف الدائر.

 

تساؤلات مُتجددة

أثناء سيطرتهم على المناطق الشمالية عمل الأيوبيون ومن بعدهم الرسوليون على تنصيب ولاة من قبلهم على تلك المناطق، كان أغلبهم من الأكراد، وحين ضعفت الدولة الرسولية، استقر غالبية هؤلاء الأمراء ومماليكهم في ذمار، استغلوا الصراع الزيدي – الزيدي، وصاروا صُناع أحداث داخل دولة الإمامة نفسها، في سابقة لم تشهدها تلك الدولة الثيوقراطية من قبل.

لم يسيطر الإمام الزيدي المهدي علي بن محمد على مُعظم المناطق الشمالية إلا بمساعدة هؤلاء الأمراء، ومماليكهم، زوج ولده الناصر صلاح الدين من فاطمة بنت الأسد بن إبراهيم الكردي، واستطاع بمساعدة والدها الأمير تثبيت أركان دولته، بعد أنْ جعله واليًا على ذمار، وكانت نتيجة تلك المصاهرة حفيده علي، الذي تولى الإمامة يوم دفن والده في صنعاء ذي الحجة 793هـ / نوفمبر 1391م، وعمره آنذاك 18 عامًا.

تلقب الإمام الشاب بـ (المنصور)، وعزم بداية العام التالي على غزو رداع، وما أنْ وصل إلى كولة عنس، حتى بلغه أنَّ الشيخ معوضة بن تاج الدين – نائب الرسوليين على تلك الجهة، وجد الطاهريين – سبقه إليها، مَسنودًا بمُقاتلين من ذات المنطقة، غالبيتهم من بني ضرار، وأنَّه انتهب ذات المدينة، وآثر فيها الاستقرار.

أكمل المنصور علي مسيره، ودخل بقواته رداع، وأجبر الشيخ مَعوضة على الانسحاب إلى ريام، وذلك بعد مُواجهات محدودة خسر فيها خاله حسن بن الأسد الكردي، وجعل على تلك المدينة الشيخ عبيه بن ثامر، ولم يمض من الوقت الكثير حتى تجددت المواجهات، ولكن في ريام هذه المرة، وخسر الفريقان عدد من القتلى، وفي الوقت الذي التجأ فيه الشيخ معوضة إلى أحد الحصون، أدلف الإمام الزيدي عائدًا إلى ذمار.

ولم يكد ينتهي ذلك العام حتى استعاد الشيخ معوضة زمام المُبادرة، وقام مسنودًا بقبائل مذحج وبني ضرار بمحاصرة رداع، وما أنْ سمع بتوجه المنصور علي إليه، حتى تقطع له بالقرب من ذات المدينة، وتظاهر بعد مواجهات محدودة بالهزيمة، ثم أحاط بالقوات الإمامية من الخلف، ومُني بعد معركة شرسة بالهزيمة.

تَفرَّد المُؤرخ يحيى بن الحسين بذكر هذه الحوادث، والتبس عليه الأمر، وأسمى الشيخ معوضه بالشيخ طاهر بن عامر، ومن يدري؟ – والاحتمال هنا ضعيف – ربما يكون الاسم الذي ذكره صحيحًا، وغفل المؤرخون المعاصرون لتلك الأحداث عن ذكره، وأضاف ذات المُؤرخ: «وهذا الشيخ طاهر بن عامر أول من تسلطن من أهل هذا البيت، وملك الأمر بالنيابة عن بني رسول.. وكان الأشرف الرسولي يمده بالأموال والرجال، ويأمره بمحاربة الإمام..».

كان الشيخ معوضة بن تاج الدين بن معوضة بن محمد بن سعيد بن عامر، أحد رجالات دولة بني رسول البارزين، ذاع صيته في عهد آخر سلاطين تلك الدولة الأقوياء، الأشرف الثاني إسماعيل بن الأفضل عباس، وإلى ولده طاهر يُنسب حُكام الدولة الطاهرية، الآتي نقل جانب من تاريخهم، وبالأخص صِراعاتهم مع دولة الإمامة الزيدية، وكيف تَصدوا – وعلى مدى عقود  لتوسعات تلك الدولة الكهنوتية؟

كما سنجيب – ومن خلال هذه التناولة – على عدة تساؤلات حائرة، ومُتجددة، تدور أبرزها حول: كيف استفاد الإماميون من تنافس القوى الكبرى – في ذلك الوقت – على البحر الأحمر، وكيف استجلبوا الغُزاة، وعملوا بكل خسة وانتهازية على زوال حُكم الدولة الطاهرية، وكيف جعلوا اليمن – كل اليمن – ساحة لصراعات تتكرر اليوم – وعبر أحفادهم – بصورة أكثر سوداوية.

وما يجدر ذكره أنَّ جد الشيخ معوضة وسميه الشيخ معوضة بن محمد ورد ذكره ضمن حوادث عام 713هـ، وذلك بوصفه شيخًا لمنطقة القائمة من بلاد الحبيشية، وقد امتدحه المُؤرخ الجندي بقوله: «وهذا الشيخ رجل خير من أعيان مشايخ الوقت، اسمه معوضة بن محمد بن سعيد، شيخ باق، مالك لمدينة القائمة، يُذكر بالدين، وكثرة الصيام والقيام، والصدقة والعدل».

وبالعودة إلى مَوضوعنا، وما أنْ شَاع خبر وفاة السلطان الأشرف الثاني إسماعيل 18 ربيع أول 803هـ / 5 نوفمبر 1400م، حتى يَمَمَ المنصور علي – مَرة أخرى – خُطاه جنوبًا، ومن رداع توجه إلى ردمان، واستولى على قلعة المعسال، وريام، ثم أدلف عائدًا إلى ذمار، وهي العودة التي جعلت الشيخ معوضة بن تاج الدين يُعلن تمرده؛ فعاود الإمام الزيدي الكرة عليه، وأخرب – كما أفاد المُؤرخ يحيى بن الحسين – بلاده، وبالأخص معاقل ردمان.

كان عهد السلطان الرسولي الثامن الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل مُستقرًا نوعًا ما، وذكر بعض المُؤرخين أنَّه وجه نشاطه بداية عهده إلى المناطق الجبلية، حيث استولى على حصن إرياب، والحقل، وأخرب مدينة يريم شوال 805هـ / أبريل 1404م.

أعلن – بعد مرور أربع سنوات – الشيخ معوضة بن تاج الدين عصيانه على الدولة الرسولية؛ فما كان من السلطان الناصر أحمد إلا أنْ وجه قواته لإصلاح جهات رداع 10 شوال 809هـ / 19 مارس 1407م، ثم عَرَّج – بنفسه – إلى تلك الجهة، فرجع الشيخ الطاهري إلى الطاعة، وتم الاتفاق بين الطرفين على الصلح، وذلك قبل أنْ ينتهي ذلك العام 17 ذي القعدة 809هـ.

المُتوج طاهر

بوفاة الشيخ معوضة بن تاج الدين 23 جمادى الآخر 812هـ، آل الأمر لولده الشيخ طاهر، وقد قَدِمَ الأخير وعددٌ من مُعاونيه على الناصر أحمد في مدينة تعز 19 جمادى الآخر 817هـ، وحظي بكرمه وإحسانه، وكُلِّف ببناء قصر النعيم في مدينة المقرانة، وحاز – وهو الأهم – على ثقة السلطان الرسولي.

اعتمد الناصر أحمد على الشيخ طاهر بن معوضة وعلى أبنائه – أيضًا – في إقرار أوضاع بلاد آل عمار، والحبيشية، والرياشية، ورداع، والمقرانة، وحجاج، وجبن، وحجْر، وغيرها، وهي المناطق التي حملت اسمهم، وكانت تُسمى بـ (بلاد بني طاهر).

كما قام السلطان الرسولي بدعم مُعارضي المنصور علي من الحمزات والإسماعيليين على السواء، وقد استقبل وفودهم – كوالده – أكثر من مرة، وأغدق عليهم بأعطياته السخية؛ وهو الأمر الذي أغضب الإمام الزيدي؛ ليبدأ – في العام التالي (818هـ) – بشن غاراته على حدود الدولة الرسولية؛ الأمر الذي جعل الشيخ طاهر بن معوضة يستنجد بالناصر أحمد، وهو أمر كان له ما بعده.

توجه الناصر أحمد – كما أفاد المُؤرخان ابن الديبع ويحيى بن الحسين – إلى تلك الجهة، والتقى المنصور علي بمنطقة تُسمى (الصرام)، ونكل به وبقواته، وطارده إلى وادي خبان، ثم يمم خطاه صوب مدينة المقرانة، وتفقد قصر (النعيم) الذي كَلَّف الشيخ طاهر ببنائه، وأعطى البنائين 20,000 دينار.

من جهته تَفرَّد مُؤرخ الدولة الرسولية المجهول بذكر حوادث مُتصلة، مفادها أنَّ المنصور علي جدد في أواخر عام 819هـ غاراته على بلاد الشيخ طاهر بن معوضة، وأخذ منها مواضع عديدة، وأنَّ الناصر أحمد كَلَّف – فور سماعه بذلك الخبر – الأمير إبراهيم بن أبو بكر السنبلي بالتوجه إلى تلك الجهة بقوات محدودة ذي القعدة 819هـ؛ الأمر الذي جعل الإمام الزيدي يُعزز قواته المتواجدة هناك بقوات كثيرة، قادها مملوكه الأمير سنقر، وقد كانت الغلبة – في النهاية – من نصيب الأخير، في حين خسر الأمير السنبلي حياته 22 محرم 820هـ / 10 مارس 1417م.

ولم يكد ينتهي ذلك العام – وكما أفاد المُؤرخ المجهول – حتى أخذ الإمام الزيدي من الشيخ طاهر بن معوضة حصن الدرام، ثم أتبع ذلك بأخذ حصني بلق والقلة، وذلك أواخر العام التالي (ذي القعدة / ديسمبر 1418م)، فما كان من الشيخ طاهر إلا أنْ استنجد – مرة أخرى – بالناصر أحمد، فأنجده السلطان الرسولي بحملة عسكرية قادها الأمير محمد بن زياد الكاملي، وقد أوقع الأخير بعساكر المنصور علي شرَّ هزيمة، وفتك بالكثير منهم، واستعاد الثلاثة الحصون السابق ذكرها، وغيرها، وبلغ عدد الأسرى الإماميين أكثر من 1,600 ما بين فارس وراجل، عفى الكاملي عن معظمهم، ولم يستبق إلا قاداتهم، أخذهم معه إلى تعز، وقد أقام السلطان الناصر احتفالًا كبيرًا بتلك المناسبة 28 محرم 822هـ / 23 فبراير 1419م.

واصل المنصور علي تكرار غاراته، مُحاولًا طمس تلك الهزيمة، إلا أنَّه تلقى في كل مرة هزيمة مُشابهة للتي قبلها، وحين يئس من تحقيق النصر، جنح إلى طلب الصلح، وهو ما حصل بعد مُرور عامين.

بعد وفاة السلطان الناصر أحمد بن الأشرف الثاني إسماعيل 16 جمادى الأولى 827هـ / 15 أبريل 1424م، أخذ الشيخ طاهر وأبنائه في تقوية أنفسهم، وذاع صيتهم كحكام لمدينة رداع وضواحيها؛ وهو الأمر الذي أقلق الإماميين، وجعلهم – رغم خلافاتهم – يتوجسون خيفة من هذه القوة السُنية الطامحة، والمُتحفزة، والتي كانت بمثابة حائط الصد المنيع المُجابه لتوسعاتهم.

انقطع – بعد ذلك – ذكر الشيخ طاهر بن معوضة في المراجع التاريخية التي وثقت لتفاصيل تلك الحقبة، وبدأ ذكر أبنائه، وبالأخص ولديه (علي، وعامر)، وقد قام الأول بزيارة مدينة تعز صفر 835هـ / أكتوبر 1431م، والتقى السلطان الرسولي الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل، وتحقق في العام التالي زواج أخته من ذات السلطان، وهي المُصاهرة التي قَوَّت – إلى حين – العلاقة بين الرسوليين والطاهريين، ورجحت الاحتمال القائل: بأنَّ الشيخ طاهر كان حينها في عِداد الموتى؛ بدليل قول المُؤرخ ابن الديبع: «اتفقت الصهورة المباركة بين الملك الظاهر، وبين الشيخ علي بن طاهر».

وفي الجانب الآخر، وبعد مرور أربع سنوات، توفى المنصور علي في صنعاء محرم 840هـ / يوليو 1437م، فخلفه ولده الناصر محمد، الذي حكم لـ 40 يومـًا فقط، وقيل أقل من ذلك، لتتحكم زوجة الأخير الأميرة فاطمة بنت الحسن بن صلاح ومملوك زوجها قاسم بن عبدالله بن سنقر بالأمر.

حين رأت الأميرة فاطمة عدم رضا العامة عنها، أجمعت ومساندوها على اختيار صلاح بن علي (من نفس الأسرة) إمامًا وزوجًا، تلقب الأخير بـ (المهدي)، وعزم بعد عدة أيام على التخلص من المملوك قاسم سنقر، إلا أنَّ الأخير أحبط محاولته، وزج به في السجن، لتنجح زوجته الأميرة فاطمة بإخراجه، أخذته معها إلى صعدة، وهناك كان لها الأمر والنهي دون منازع.

نَصَّب المملوك قاسم سنقر في صنعاء الناصر بن محمد إمامًا، ودعا الناس إلى بيعته، كان الأخير صغير السن، قليل العلم، تلقب بـ (المنصور)، تيمنًا بالمنصور علي، جده لأمه مريم، لتنجح الأخيرة بتهريبه إلى ذمار؛ وذلك حين وقع الخلاف بينه وبين ذلك المملوك المُتسلط.

الحمزات من جهتهم استغلوا ذلك الصراع، وأعلن المُطهَّر بن محمد بن سليمان الحمزي من الأهجر نفسه إمامًا، مُتلقبًا بـ (المُتوكل)، استدعاه المملوك سنقر إلى صنعاء، وأعلن تأييده له، كما أيده عدد من العلماء، ليخرجا – أي الإمام الحمزي، والمملوك سنقر – معًا وقبل أنْ ينتهي ذلك العام لمحاربة المنصور الناصر، وفي قرية قريس بجهران كانت المواجهة.

استعان الإمام الناصر بالطاهريين، وبهم انتصر، وأسر مُعارضه الإمام المُطهَّر، وأمر بحبسه، كما أمر بخنق قاسم سنقر كي يبدو موته طبيعيًا، ودخل بداية العام التالي صنعاء، وذلك بالتزامن مع هُروب المُتوكل المُطهَّر من سجنه في حصن الربعة بذمار، تقوى – بعد ذلك – أمر ألأخير، وكانت أغلب حروبه مع المهدي صلاح، وإلى الإمامين أرسل الشاعر أحمد بن قاسم الشامي بقصيدة طويلة مُنتقدًا ومُحرضًا إياهما على التوجه لغزو بلاد بني طاهر، نقتطف منها:

هلا سـألت مطـهــرًا وصـــلاحا

هـلا حصل للمسلــميــن صلاحا

أم جهــــزا جيــشًا لبـلــدة طـاهر

يــروي التـراب بـها دمًا سفاحا

أو ليـــس أمـلاك المتـوج طاهر

ملـكوا رداع وهـيوة وصـبـاحا

تلك التـــي كـانـــت لآل محمد

صدقًا وهـم فيها مسًا وصـباحا

فســـطا عليهم شــافعي ســالك

في مـذهـب لكـنَّ فـيـــه فســاح

فـيه الغنـاء مع البـــراعـة جائز

والطار والشطـرنج صار مُباحا

يا داعــيـــان دعـا العـناد وأديا

فرض الجهاد وقـدما الأرواحا

لم تدم المودة بين المنصور الناصر والطاهريين، توجه لمحاربتهم 848هـ، وعن ذلك قال المُؤرخ ابن الأنف: «خرج الناصر إلى ذمار، فجمع أحزابه، وعب كالسيل عبابه، وخرج على غفلة إلى بني طاهر، فدخل مدينة دمت عنوة، ولم يكن لمن فيها وقعة قوة، ونهب وأخرب، والتجأ أهلها إلى الحصن.. وعاد فقصد حصن هيوة، فغشي من فيها الجبن، فسلموا إليه الحصن، وهو من الحصون الرفيعة، والمعاقل المنيعة».

كانت الحرب بينهما – بعد ذلك – سِجالًا، تخللتها بعضٌ من محطات الصلح المؤقت 852هـ، كما كانت للمنصور الناصر حروب مع المُتوكل المُطهَّر، الذي تحالف هو الآخر مع الطاهريين والإسماعيليين على السواء، وكانت – أي تلك الحرب – هي الأخرى سِجالًا.

العامرية رداع كيف استفاد الإماميون من صراعات القوى الكبرى على البحر الأحمر؟ (1-3)

مدرسة العامرية تقع في مدينة رداع تأسست في عصر الدولة الطاهرية.

توسعات طاهرية

عصفت الصراعات الأسرية – حينها – بالدولة الرسولية، ودب الضعف في أوصالها، وكان للمماليك (وهم أجناد من الرقيق دأب سلاطين بني رسول الأوائل على استقدامهم) دور بارز في صناعة ذلك التحول المُريع، عملوا على زعزعة الاستقرار، وبحثوا خلال العقد الأخير من عُمر تلك الدولة عن أمراء رسوليين ضعاف، ونصبوهم من زبيد سلاطين، مُنافسين لسلطان تعز المظفر الثاني يوسف بن عمر بن إسماعيل، وعاثوا باسمهم في المناطق التهامية نهبًا وخرابًا.

كان المسعود صلاح الدين ذو الـ 13 ربيعًا أبرز أولئك السلاطين، نصبه المماليك سلطانًا بعد أنْ قاموا بعزل الناصر الثاني أحمد بن يوسف ربيع الأول 847هـ / يوليو 1443م، استعاد بمساعدتهم التهائم، ثم توجه صوب عدن، استعادها هي الأخرى، ثم توجه نحو تعز لمُحاربة المُظفر الثاني، أجبر الأخير بعد حروب وخطوب على التخلي عن السلطة 852هـ / 1450م، وقد وقف الطاهريون خلال جولات ذلك الصراع إلى جانب السلطان المعزول.

لم ينعم السلطان المسعود صلاح الدين – هو الآخر – بالحكم طويلًا؛ تخلى عنه أنصاره، وسبق ذلك استفراد المماليك بأمر تهامة، وتنصيبهم للمُؤيد حسين بن الظاهر يحيى سلطانًا شعبان 855هـ / نوفمبر 1451م. وجد الطاهريون – حينها – الفرصة مواتية لوارثة الدولة والحكم، دخلوا عدن 23 رجب 858هـ / 19 يوليو 1454م، وأسروا المُؤيد حسين (آخر سلاطين بني رسول)، فابتدأت من هناك دولتهم، وفيها أيضًا – كما سيأتي – كانت نهايتهم.

وهكذا، وبانتهاء الدولة الرسولية، ابتدأ عهد الدولة الطاهرية، وذلك بقيادة الأخوين المُجاهد علي والظافر عامر الأول (أبناء الشيخ طاهر بن معوضة بن تاج الدين)، سيطرا بصعوبة على المناطق الوسطى، والجنوبية، والغربية، واتخذا من مدينة المقرانة عاصمة لدولتهما، والأخيرة من أعمال رداع، مديرية جبن، عزلة حجاج.

رغم كونه الأصغر، استأثر الظافر عامر الأول بالخطبة والسكة لنفسه، ليتنازل بعد ستة أعوام لأخيه الأكبر؛ خوفًا وحذرًا من مصير الدولة الرسولية، تحاشى المُجاهد علي بداية عهده الدخول في صراع مع دولة الإمامة الزّيدِيّة، وحينما حاول المنصور الناصر غزو رداع 864هـ / 1460م، وعاث فيها وفي ضواحيها نهبًا وخرابًا، تلافى التصادم معه، وسعى بكل الوسائل لمصالحته، ولكن دون جدوى.

عاود المنصور الناصر بداية العام التالي الهجوم على رداع، تصدى له المُجاهد علي ببسالة، صد زحفه، وأخذ عليه مدينة ذمار وضوحيها – لعدة أشهر – بغير قتال رجب 865هـ / أبريل 1461م، وفي مدينة صنعاء وقف ذات الإمام خطيبًا مُحرضًا الناس على الجهاد، وقال فيهم: «هذا مذهب يريد أنْ يبطل مذهبنا، ويسعى في أرضنا بالفساد».

جمع المنصور الناصر جموعه الغفيرة، وسار بهم إلى ذمار، استردها بسهولة، وحينما علم بعزم الطاهريين على ملاقاته، هاله ما معهم من قوة وعتاد، وغادر قصره العتيق، وولى هاربًا إلى حصن هران، وعنه قال الشاعر عبدالله بن علي بن حسن:

وأتــــاه ابــــن طـاهر فــي جـــيــوشٍ

مــــلأت قـــلبـه الـجبــــان خبــــــــالا

فمــــضى هـاربًا وأسرع في الركض

وحـلا مــاله ثــــــــــم مــــــــــــــــالا

ورقى جيـــشـه الـهـــلاك ذرا هــران

إذ لـــــــم يـطـق وصــــــــــولًا آزالا

سيطر الطاهريون بكل سهولة على مدينة ذمار للمرة الثانية رجب 866هـ / أبريل 1462م، بقيادة الظافر عامر بن طاهر، أمن الأخير سكانها، وأمر بخراب قصرها، وعن ذلك قال المُؤرخ ابن الأنف: «فأخرب والناصر ينظر من هران، وفي قلبه لذلك لواعج الأحزان».

كانت الإمامة الزّيدِيّة حينها في غاية الضعف، وكان الصراع بين الإمام الهادوي الناصر بن محمد والإمام الحمزي المُطهَّر بن محمد على أوجه، عاود أنصار الأخير – في تلك الأثناء – بتحريض طاهري غاراتهم الجنونية على صنعاء، فيما قام أهالي عرقب في منطقة الحدا بأسر المنصور الناصر فور مُغادرته حصن هران، تدخل حينها بعض فقهاء الزّيدِيّة، وخاطبوهم بالقول: «لا تخرموا المذهب، وتسلموا الناصر إلى عامر؛ بل سلموه إلى الإمام المُطهر، ولكم بذلك الأجر الوافر»، ولولا ذلك الصراع والتنافس الزيدي – الزيدي؛ لتمكّن الإماميون من وراثة ملك بني رسول بكل سهولة ويسر.

خلف المنصور الناصر عام أسره ولده محمد، ذو الـ 14 ربيعًا، تلقب بـ (المُؤيد)، وظلت صنعاء تحت حكمه، ليتحقق للطاهريين السيطرة عليها بطلب منه، نكاية بالإمام الحمزي، وليمنع وقوعها بيد الأخير وحلفاءه الإسماعيليين، وذلك في شوال من ذات العام يوليو 1462م، مُقابل 50,000 دينار سُلمت له على أن يبقى مُعتزلًا في قصره، ليتوفى والده بعد عامين وثلاثة أشهر في حصن العروس 9 صفر 869هـ / 10 أكتوبر 1464م، بعد أن تعرض لصنوفٍ من العذابِ المهين، وعن ذلك قال المُؤرخ ابن فند: «وكان موت المنصور الناصر قتيلًا، دق في أذنيه بمسمار، وخُتم عليه بشمع حتى لا يخرج منه دم».

وعن الإمام الصريع وقاتليه قال إدريس بن الحسين بن الأنف:

أيـــا ملكًا قـد صـار من بعد عزة

ذليـــلًا أسيرًا في أكف الـزعانف

ولم يكفـهم حتى غدت كل طعنة

لـه منـهم تـهمي كما أنف راعف

فيــــا ويلكم لـم تقتـلـون أسيـركم

ولم تقطعوا منه عروق الشراسف

استطاع المُؤيد محمد التخلص من سيطرة الطاهريين على مدينة صنعاء بالخديعة 869هـ، فعمل الظافر عامر أواخر ذات العام على استعادتها، حاصرها بمساعدة أنصار المُتوكل المُطهَّر لثلاثة أسابيع، وعاث في أحراشها تدميرًا وخرابًا، إلا أنَّ أنصار المُؤيد صدوا زحوفاته، فعاود عليهم الكرة في العام التالي مرتين.

تعرض الظافر عامر بفعل الخيانة لهزيمة ماحقة، وقُتل على أبواب مدينة صنعاء 14 ذو القعدة 870هـ / 27 يونيو 1466م، ومعه 150 من أصحابه، ونُهبت أحماله، وحُزَّ رأسه، وقُدم للمُؤيد محمد، وعن تلك الخيانة قال المُؤرخ ابن الأنف: «وتقدم فارس من جهة الحسن المقمحي وعنس – كانوا ضمن قوات الظافر – فقال لأهل صنعاء أن الخيام والأثقال في آكام الزبيب، فاخرجوا إليها، وما أحد يقاتل عليها».

وعن الظافر عامر قال الشاعر محمد بن عبدالله الوزير مُتشفيًا:

ألــــم تــرى عـــامرًا فــي يــــــوم صنعا

تــولــــى كــبــره والعنـــجـــــهــــــيـــــة

وأخــرب دورنـــــا وجــــنـى عليـــــنـــا

جنـــايــــة مُستـــــخـف بالجـــــنـــــيــــة

فعــــــوجـــــل بـــالعقـــــوبة واستبيحت

نــفــايسه مـــع النــــفـــــــس الأبــيـــــة

.. يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى